قهوتي و كتابي

الدخان


يقول تعال: { فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُّبين (10) يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الدخان:10,11]

يقول ابن أبي مُليكة: غدوت على ابن عباس ذات يوم, فقال: ما نمت الليلة حتى أصبحت قلت: لِمَ؟ قال: طلع الكوكب ذو الذنب فخشيت أن يكون الدخان قد طرق فما نِمت حتى أصبحت.

ويقول علي رضي الله عنه: لم تمض آية الدُّخان بعد, يأخذ المؤمن كهيئة الزكام, وينفخ الكافر حتى ينفذ.

هل هذه العلامة وقعت أم لا؟
اختلف العلماء من الصحابة, ومن بعدهم في وقوع الدخان إلى فريقين:

الفريق الأول:
يرى أن الدخان قد وقع, وهذا قول ابن مسعود- رضي الله عنه- ومجاهد وأبي العالية وإبراهيم النخعي والضحاك وعطية العوفي, وهو اختيار ابن جرير.


ورد عن مسروق تلميذ ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: دخلنا المسجد- يعني مسجد الكوفة- عند أبواب كندة فإذا رجل يقص على أصحابه { يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُّبين} تدرون ما ذلك الدخان؟ ذلك دخان يأتي يوم القيامة فيأخذ بأسماع المنافقين وأبصارهم, ويأخذ المؤمنين من شبه الزكام قال: فأتينا ابن مسعود- رضي الله عنه- فذكرنا ذلك له, وكان مضطجعاً ففزع فقعد, وقال: إن الله عز وجل قال لنبيكم صلى الله عليه وسلم: { قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ}[ص:86] إن من العلم أن يقول الرجل لما لا يعلم: الله أعلم, سأحدثكم عن ذلك. إن قريشاً لما أبطأت عن الإسلام, واستعصت على رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا عليهم بسنين كسني يوسف فأصابهم من الجهد والجوع حتى أكلوا العظام والميتة, وجعلوا يرفعون أبصارهم إلى السماء فلا يرون إلا الدخان. وفي رواية: فجعل الرجل ينظر إلى السماء فيرى ما بينه وبينها كهيئة الدخان من الجهد. قال الله تعالى: { فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُّبين (10) يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الدخان:10,11]

فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل له: استسق الله لمضر فإنها قد هلكت, فاستسقى صلى الله عليه وسلم لهم فسقوا فنزلت { إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عَائِدُون} [الدخان:15], قال ابن مسعود- رضي الله عنه- : فيكشف عنهم العذاب يوم القيامة فلما أصابهم الرفاهية عادوا إلى حالهم فأنزل الله عز وجل: { يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ} [الدخان:16] قال: يعني يوم بدر, قال ابن مسعود رضي الله عنه فقد مضى خمسة: الدخان, والروم, والقمر, والبطشة, واللزام).
[الروم: أي القتال, القمر: انشقاق القمر, البطشة واللزام: قيل هما القتل بالسيف يوم بدر وقيل البطشة يوم بدر واللزام هو المذكور في قوله تعالى: {فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً} [الفرقان:17] وهو العذاب الدائم].

وهذا الحديث مخرج في الصحيحين, ورواه الإمام أحمد في مسنده, وهو عند الترمذي, والنسائي في تفسيرهما.

وعلى هذا فهم يرون أن الدخان قد وقع, ولن يقع مرة ثانية كعلامة من علامات الساعة الكبرى, فإحدى علامات الساعة الكبرى قد ظهرت عندهم.

أمّا الفريق الثاني:
فيرى أن الدخان لم يقع بعد, وأنه سيقع كعلامة من علامات الساعة الكبرى.

وهذا قول بعض الصحابة والتابعين, ومن وافقهم منهم ترجمان القرآن ابن عباس- رضي الله عنه,
ويؤيده جملة من الأحاديث, والآثار.
فعن حُذيفة بن أسيد رضي الله عنه قال: أشرف علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم من عرفة, ونحن نتذاكر الساعة, فقال صلى الله عليه وسلم: ( لا تقوم الساعة حتى تروا عشر آيات: طلوع الشمس من مغربها, والدخان, والدابة, وخروج يأجوج ومأجوج, وخروج عيسى ابن مريم, والدجَّال, وثلاثة خسوف: خسف بالمشرق, وخسف بالمغرب, وخسف بجزيرة العرب).

وهذا الحديث يدل على أن الدخان من علامات الساعة الكبرى فقد عطف رسول الله صلى الله عليه وسلم الدابة على علامات الساعة الكبرى.

وفي الحديث أيضاً عن حذيفة: ( إن الساعة لا تكون عشر آيات: خسف بالمشرق, وخسف بالمغرب, وخسف بجزيرة العرب, والدخان, والدجَّال, ودابة الأرض, ويأجوج ومأجوج, وطلوع الشمس من مغربها, ونار تخرج من قعر عدن, ترحل الناس).

وعن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن ربكم أنذركم ثلاثاً: الدخان, يأخذ المؤمنين كالزكمة, ويأخذ الكافر فينتفخ حتى يخرج من كل مسمع منه, والثانية: الدابة, والثالثة: الدجَّال).

ويؤيد هذه الأحاديث والآثار ظاهر القرآن الكريم.
قال الله تبارك وتعالى: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُّبين} أي: بيِّن واضح يراه كل أحد, وعلى ما فسر به ابن مسعود- رضي الله عنه- إنما هو خيال رأوه في أعينهم من شدة الجوع والجهد, وهكذا قوله تعالى: { يَغْشَى النَّاسَ } أي يتغشاهم ويعميهم, ولو كان أمراً خياليًّا يخص أهل مكة المشركين لما قيل فيه { يَغْشَى النَّاسَ}[الدخان:11].

وكما ترى أدلة من ذهب إلى أن الدخان لم يقع بعد هو الأولى بالقبول.
والذي يقتضيه النظر الصحيح حمل ذلك على قضيتين:
1-   إحداهما, وقعت.
2-   والأخرى ستقع, وستكون.

فأما التي كانت فالتي كانوا يرون فيها كهيئة دخان, وهي الدخان الحقيقي الذي يكون عند ظهور الآيات التي هي من الأشراط, والعلامات, ولا يمتنع إذا ظهرت هذه العلامات أن يقولوا: { رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُون} [الدخان:12], فيكشف عنهم ثم يعودون لقرب الساعة.

وقول ابن مسعود لم يسنده إلى النبي صلى الله عليه وسلم إنما هو من تفسيره, وقد جاء النص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بخلافه.

وقد روي عن ابن مسعود أنهما دخانان.

قال مجاهد: كان ابن مسعود يقول: هما دخانان قد مضى أحدهما, والذي بقي يملأ ما بين السماء والأرض, ولا يجد المؤمن إلا كالزكمة, وأما الكافر فتثقب مسامعه فتبعث عند ذلك الريح الجنوب من اليمن فتقبض روح كل مؤمن ومؤمنة, ويبقى شرار الناس.

وبعد أن تأتي ريح الجنوب التي تقبض روح كل مؤمن ومؤمنة, ويبقى شرار الناس.
عندئذ تحدث هذه الأمور العظام.

د/مصطفى مراد

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

سيتم مراجعة التعليقات قبل نشرها وحذف التعليقات غير اللائقة