بناء السَّد
يصوِّر القرآن الكريم كيف تمّ
بناء السَّد حول يأجوج ومأجوج فيقول:
{حَتَّى إِذَا بَلَغَ
السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْماً لَّا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً
(93) قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي
الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا
وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94) قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي
بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً (95) آتُونِي زُبَرَ
الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى
إِذَا جَعَلَهُ نَاراً قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً (96) فَمَا
اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْباً (97) قَالَ هَذَا
رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ
وَعْدُ رَبِّي حَقًّا} [الكهف:93-98].
لما استشرى فساد يأجوج ومأجوج,
وتضايق منهم الخلق أشد مضايقة لجئوا إلى ذي القرنين- العبد الصالح- فالت له أمة
صالحة: إنَّ يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض, يقتلون الخلق, ويسفكون الدماء, ويقطعون
الطريق, ويظلمون, ولا يتركون نوعاً من الفساد إلا أتوا به.
يا ذا القرنين هل نجعل لك
خرجاً, أي: جُعلاً على أن تجعل بيننا وبينهم سدًّا قال: ما مكني فيه ربي خير من
عطائكم, ومن أجركم, ولكن أعينوني بقوة أجعل بينكم وبينهم ردماً, والردم أقوى وأعظم
وأكبر من السد.
قالوا له: وما تريد؟ قال: آتوني
زبر الحديد, أي قطع الحديد فوضع بعضها على بعض كهيئة البناء فيما بين السدين, وهما
جبلان عند أرمينية, وأذربيجان {حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ }
يعني: جانبي الجبلين { قَالَ انْفُخُوا } أي: أوقدوا { حَتَّى إِذَا
جَعَلَهُ نَاراً قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً (96) فَمَا اسْطَاعُوا
أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْباً } أي من تحته حيث أفرغ
النحاس على الحديد ليلتصق حتى دخل بعضه في بعض.
يقول الحوفي: إنَّ ذا القرنين
لما عاين ذلك منهم انصرف إلى ما بين الصدفين فقاس ما بينهما, وهو في منقطع الترك
مما يلي مشرق الشمس, فوجد بعد ما بينهما مائة فرسخ فلمَّا أنشأ في عمله حفر له
أساساً حتى إذا بلغ الماء جعل عرضه خمسين فرسخاً, وجعل حشوه الصخور, وطينه النحاس
يذاب, ثمّ يُصيب عليه, فصار كأنه عرق من جبل تحت الأرض, ثمّ علاه وشرفه بزبر
الحديد والنُحاس المُذاب, وجعل خلاله عرقاً من نحاس فصار كأنه برد حبرة من صفرة
النحاس وحمرته, وسواد الحديد, فلمَّا فرغ منه, وأحكمه انطلق عائداً إلى جماعة
الإنس والجن.
·
ذو القرنين: اختلف في اسمه قيل: عبد الله بن
الضحاك, وقيل: مصعب بن عبد الله, وقيل: مرزبان بن مرزبة. واختلف لماذا لقب بذي
القرنين: قيل: لأنه كان به قرنان من نحاس وهذا ضعيف, وقيل: كانت له غديرتان
"الغديرة خصلة الشعر" من شعر, وقيل: لأنه بلغ قرني الشمس غرباً وشرقاً,
وملك ما بينهما من الأرض وهذا الأشبه. واختلف هل كان نبيًّا أم لا والصحيح أنه لم
يكن نبيًّا ولا رسولاً ولا ملكاً, وإنما كان عبداً صالحاً ملكاً عادلاً, وهو أحد
الأربعة الذين ملكوا الأرض, وهؤلاء الأربعة منهم اثنان مؤمنان, ومنهم اثنان
كافران, فأما المؤمنان: فسليمان عليه السلام. وذو القرنين, وأما الكافران:
فالنمرود وبختنصر.
روى البخاري أن رجلاً قال للنبي
صلى الله عليه وسلم: رأيت السَّد, قال: ( وكيف رأيته؟) قال: مثل البُرد
المُحَبَّر قال: ( قد رأيته).
وقد ذُكر أنَّ الخليفة الواثق
بعث بعض أمرائه, وجهَّز معهم جيشاً, وكتب لهم كتباً إلى الملوك يوصلونها من بلاد
إلى بلاد حتى ينتهوا إلى السد فيكشفوا عن خبره, وينظروا كيف بناه ذو القرنين على
أي صفة! وينعتوه له إذا رجعوا, فتوصلوا من بلاد إلى بلاد, ومن ملك إلى ملك حتى
وصلوا إليه, ورأوا بناءه من الحديد, ومن النحاس, وذكروا أنَّ فيه باباً عظيماً, وعليه
أقفال عظيمة, وأنه بناء محكم شاهق منيف جدًّا, ورأوا بقية اللبن, والآلات, والعمل
في بُرج هناك, وأن عنده حرساً لتلك الملوك المتاخمة لتلك البلاد, وأنه عال منيف
شاهق لا يُستطاع, ولا ما حوله من الجبال, ومحلته في شرقي الأرض في جهة الشمال في
زاوية الأرض الشرقية الشمالية, ثم رجعوا إلى بلادهم, وكانت غيبتهم أكثر من سنين,
وشاهدوا أهوالاً وعجائب.
وكان الواثق قد رأى في النوم
كأنَّ السد فتح فأرسل رسولاً سلَّام الترجمان, وكتب له إلى الملوك بالوصاة به,
وبعث معه ألفي بغل تحمل طعاماً فانتهوا إلى مدائن خراب, وهي التي كانت يأجوج
ومأجوج تطرقها فخربت من ذلك الحين إلى الآن, ثمّ انتهوا إلى حصن قريب من السد
فوجدوا قوماً يعرفون بالعربية, والفارسية, ويحفظون القرآن, ولهم مكاتب, ومساجد,
فجعلوا يعجبون منهم, ويسألونهم من أين أقبلوا؟ فذكروا لهم أنهم من جهة أمير
المؤمنين الواثق فلم يعرفوه بالكُلية, ثم انتهوا إلى جبل أملس ليس عليه خضر, وإذا
السد هنالك من لبن حديد مُغيَّب في نحاس, وهو مرتفع جدًّا لا يكاد البصر ينتهي
إليه, وله شرفات من حديد, وفي وسطه باب عظيم بمصراعين مغلقين عرضهما مائة ذراع, في
طول مائة ذراع, وفي ثخانة خمسة أذرع, وعليه قفل طوله سبعة أذرع في غلظ باع, وعند
ذلك المكان حرس يضربون عند القفل في كل يوم, فيسمعون بعد ذلك صوتاً عظيماً مزعجاً
فيعلمون أنَّ وراء هذا الباب حرس وحفظة, وقريب من هذا الباب حصنان عظيمان بينهما
عين ماء عذبة, وفي إحداهما بقايا العمارة من مغارف, ولبن من حديد, وغير ذلك, وإذا
طول اللبنة ذراع ونصف في مثله في سُمك شبر, وذكروا أنهم سألوا أهل تلك البلاد هل
رأوا أحداً من يأجوج ومأجوج؟ فأخبروهم: أنهم رأوا منهم يوماً أشخاصاً فوق الشرفات,
فهبت الريح فألقتهم إليهم فإذا طول الرجل منهم شبراً, أو نصف شبر.
ومهما يكن من أمر فإن هذا السد
موجود الآن في أذربيجان, وأرمينية.
وعلى وجه التحديد في مكان جبلي
شاهق الارتفاع شديد التضرس, قائم كجدارين شامخين على جانبيه في المضيق الجبلي
المعروف باسم "داريال", وهو مرسوم في جميع الخرائط الإسلامية والروسية
في جمهورية "جورجيا", وقد استخدمت في تشييده قطع الحديد الكبيرة, وأفرغ
عليه النحاس المنصهر كما وصفه القرآن الكريم تماماً, وهو كتل هائلة من الحديد
المخلوط بالنحاس موجودة في جبال القوقاز في منطقة "داريال" الجبلية, وهي
حقيقة قائمة لكل من أراد أن يراها.
جبال شاهقة تمتد من البحر
الأسود حتى بحر قزوين التي تمتد لتصل بين البحرين طوال 1200 كيلومتر, وهي جبال
التوائية حديثة التكوين شامخة متجانسة التركيب إلا من كتل هائلة من الحديد الصافي
المخلوط بالنحاس الصافي في سد داريال.
قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: ( إن يأجوج ومأجوج ليحفرون السد كل يوم حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال
الذي عليهم: ارجعوا فستحفرونه غداً, فيعودون إليه كأشد ما كان, حتى إذا بلغت
مدتهم, وأراد الله- عز وجل- أن يبعثهم إلى الناس حفروا حتى إذا كادوا يرون شعاع
الشمس قال الذي عليهم: ارجعوا فستحفرونه غداً- إن شاء الله- ويستثني- فيعودون
إليه, وهو كهيئته حين تركوه فيحفرونه, ويخرجون على الناس).
[الذي عليهم: قائدهم وأميرهم,
ويستثني: أي يقول إن شاء الله].
وفي هذا الحديث ثلاث آيات:
الأولى: أن الله منعهم أن
يوالوا الحفر ليلاً ونهاراً.
والثانية: منعهم أن يحاولوا
الرقي على السد بسلم أو آلة.
الثالثة: أنه صدهم عن أن
يقولوا "إن شاء الله" حتى يجيء الوقت المحدد.
يقول الحافظ: ( وفيهم أهل
صناعة, وأهل ولاية وسلطة, ورعية تطيع من فوقها, وأن فيهم من يعرف الله, ويقر
بقدرته ومشيئته, ويحتمل أن تكون تلك الكلمة تجري على لسان ذلك الوالي من غير أن
يعرف معناها, فيحصل المقصود ببركتها).
وبعد أن يظهر يأجوج ومأجوج, وهم
من كل طريق, وصوب يسرعون إكراماً من الله تعالى لعباده المؤمنين يوحي الله تعالى
إلى عيسى- عليه السلام- ( إني قد أخرجت عباداً لي لا يدان لأحد بقتالهم, فحرِّز
عبادي إلى الطور, وبعد أن يختبئ المسلمون, وراء جبل الطور بسيناء تبدأ حملة يأجوج
ومأجوج التدميرية, فيمر أوائلهم على بحيرة طبرية فيشربون ما فيها, ويمر آخرهم
فيقولون: لقد كان بهذه مرة ماء, ويحصر نبي الله عيسى وأصحابه حتى يكون رأس الثور
لأحدهم خيراًً من مائة دينار).
[طبرية: بفلسطين قرب البحر
الميت]
ولا يترك يأجوج ومأجوج إنساناً,
أو حيواناً, أو نباتاً, أو جماداً إلا نسفوه, ودمروه.
وعندما يستيقنون أنهم قد أهلكوا
أهل الأرض يقول قائلهم: هؤلاء أهل الأرض قد فرغنا منهم, بقي أهل السماء!! قال: يهز
أحدهم حربته, ثم يرمي بها إلى السماء فترجع إليهم مخضبة دماء للبلاء, والفتنة.
فيرغب نبي الله عيسى- عليه
السلام- وأصحابه إلى الله تعالى "أي يستغيثون إلى الله تعالى".
فيرسل الله تعالى عليهم النغف
في رقابهم فيصبحون فرسى كموت نفس واحدة
[النغف: دود يصيب الإبل والغنم
في أنوفها, والمراد أنه يرسل عليهم مرضاً يهلكهم, فرسى: قتلى].
وفي الحديث: ( يبعث الله
داءً في أعناقهم كنغف الجراد الذي يخرج في أعناقه فيصبحون موتى لا يُسمع لهم حس,
فيقول المسلمون ألا رجل يشري لنا نفسه فينظر ما فعل هذا العدو؟ قال: فينجرد رجل
منهم محتسباً نفسه قد أوطنها على أنه مقتول. فينزل فيجدهم موتى بعضهم على بعض
فينادي: يا معشر المسلمين ألا أبشروا, إن الله عز وجل قد كفاكم عدوكم).
[يشري لنا نفسه: يبيع نفسه لله
تعالى, فينجرد: يخرج لهم]
ثم يهبط نبي الله عيسى- عليه
السلام- وأصحابه رضي الله عنهم إلى الأرض فلا يجدون في الأرض موضع شبر إلا ملأه
زهمهم, ونتنهم, فيخرجون من مدائنهم, وحصونهم, ويسرحون مواشيهم فما يكون لها مرعى
إلا لحومهم, فتشكر عنه كأحسن ما شكرت عن شيء من النبات أصابته قط.
[زهمهم ونتنهم: ريحهم النتنة,
فتشكر: تسمن].
( فيرغب نبي الله عيسى- عليه
السلام- وأصحابه- رضي الله عنهم- إلى الله تعالى طيراً كأعناق البُخت, فتحملهم
فتطرحهم حيث شاء الله).
[البُخت: الإبل]
وهذه الريح يكون معها مطر.
ففي الحديث: ( فينزل الله عز
وجل المطر فتجرف أجسادهم حتى يقذفهم في البحر).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
سيتم مراجعة التعليقات قبل نشرها وحذف التعليقات غير اللائقة